My Buku Kuning Center : تفسير سورة البقرة | 17 - 24

DROP MENU

تفسير سورة البقرة | 17 - 24

تفسير ابن كثر - سورة البقرة

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ ( 17 )
يُقَال مَثَل وَمِثْل وَمَثِيل أَيْضًا وَالْجَمْع أَمْثَال قَالَ اللَّه تَعَالَى " وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ " وَتَقْدِير هَذَا الْمَثَل أَنَّ اللَّه سُبْحَانه شَبَّهَهُمْ فِي اِشْتِرَائِهِمْ الضَّلَالَة بِالْهُدَى وَصَيْرُورَتهمْ بَعْد الْبَصِيرَة إِلَى الْعَمَى بِمَنْ اِسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله وَانْتَفَعَ بِهَا وَأَبْصَرَ بِهَا مَا عَنْ يَمِينه وَشِمَاله وَتَأَنَّسَ بِهَا فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ طُفِئَتْ نَاره وَصَارَ فِي ظَلَام شَدِيد لَا يُبْصِر وَلَا يَهْتَدِي وَهُوَ مَعَ هَذَا أَصَمّ لَا يَسْمَع أَبْكَم لَا يَنْطِق أَعْمَى لَوْ كَانَ ضِيَاء لَمَا أَبْصَرَ فَلِهَذَا لَا يَرْجِع إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْل ذَلِكَ فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي اِسْتِبْدَالهمْ عِوَضًا عَنْ الْهُدَى وَاسْتِحْبَابهمْ الْغَيّ عَلَى الرُّشْد . وَفِي هَذَا الْمَثَل دَلَالَة عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ حَكَى هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ الرَّازِيّ فِي تَفْسِيره عَنْ السُّدِّيّ ثُمَّ قَالَ وَالتَّشْبِيه هَاهُنَا فِي غَايَة الصِّحَّة لِأَنَّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ اِكْتَسَبُوا أَوَّلًا نُورًا ثُمَّ بِنِفَاقِهِمْ ثَانِيًا أَبْطَلُوا ذَلِكَ فَوَقَعُوا فِي حِيرَة عَظِيمَة فَإِنَّهُ لَا حِيرَة أَعْظَم مِنْ حِيرَة الدِّين . وَزَعَمَ اِبْن جَرِير أَنَّ الْمَضْرُوب لَهُمْ الْمَثَل هَاهُنَا لَمْ يُؤْمِنُوا فِي وَقْت مِنْ الْأَوْقَات وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى" وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ " وَالصَّوَاب أَنَّ هَذَا إِخْبَار عَنْهُمْ فِي حَال نِفَاقهمْ وَكُفْرهمْ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنَّهُ كَانَ حَصَلَ لَهُمْ إِيمَان قَبْل ذَلِكَ ثُمَّ سُلِبُوهُ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبهمْ وَلَمْ يَسْتَحْضِر اِبْن جَرِير هَذِهِ الْآيَة هَاهُنَا وَهِيَ قَوْله تَعَالَى " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبهمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ " فَلِهَذَا وَجَّهَ هَذَا الْمَثَل بِأَنَّهُمْ اِسْتَضَاءُوا بِمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ كَلِمَة الْإِيمَان أَيْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَعْقَبَهُمْ ظُلُمَات يَوْم الْقِيَامَة. قَالَ : وَصَحَّ ضَرْب مَثَل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ كَمَا قَالَ" رَأَيْتهمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْك تَدُور أَعْيُنهمْ كَاَلَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْت " أَيْ كَدَوَرَانِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْت . وَقَالَ تَعَالَى " مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَة " وَقَالَ تَعَالَى " مَثَل الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَار يَحْمِل أَسْفَارًا" وَقَالَ بَعْضهمْ تَقْدِير الْكَلَام مَثَل قِصَّتهمْ كَقِصَّةِ الَّذِينَ اِسْتَوْقَدُوا نَارًا وَقَالَ بَعْضهمْ الْمُسْتَوْقِد وَاحِد لِجَمَاعَةٍ مَعَهُ وَقَالَ آخَرُونَ الَّذِي هَاهُنَا بِمَعْنَى الَّذِينَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ هُمْ الْقَوْم كُلّ الْقَوْم يَا أُمّ خَالِد قُلْت وَقَدْ اِلْتَفَتَ فِي أَثْنَاء الْمَثَل مِنْ الْوَاحِد إِلَى الْجَمْع فِي قَوْله تَعَالَى" فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ . صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" وَهَذَا أَفْصَح فِي الْكَلَام وَأَبْلَغ فِي النِّظَام وَقَوْله تَعَالَى" ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ " أَيْ ذَهَبَ عَنْهُمْ بِمَا يَنْفَعهُمْ وَهُوَ النُّور وَأَبْقَى لَهُمْ مَا يَضُرّهُمْ وَهُوَ الْإِحْرَاق وَالدُّخَان " وَتَرَكَهُمْ فِي الظُّلُمَات " وَهُوَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الشَّكّ وَالْكُفْر وَالنِّفَاق " لَا يُبْصِرُونَ " لَا يَهْتَدُونَ إِلَى سَبِيل خَيْر وَلَا يَعْرِفُونَهَا .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ( 18 )
وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ" صُمٌّ " لَا يَسْمَعُونَ خَيْرًا " بُكْمٌ " لَا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَنْفَعهُمْ " عُمْيٌ " فِي ضَلَالَة وَعَمَايَة الْبَصِيرَة كَمَا قَالَ تَعَالَى " فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور " فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُونَ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْهِدَايَة الَّتِي بَاعُوهَا بِالضَّلَالَةِ . " ذِكْرُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ السَّلَف بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ " قَالَ السُّدِّيّ فِي تَفْسِيره عَنْ أَبِي مَالِك عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَعَنْ نَاس مِنْ الصَّحَابَة فِي قَوْله تَعَالَى " فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله " زَعَمَ أَنَّ نَاسًا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَام مَعَ مَقْدِم نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة ثُمَّ إِنَّهُمْ نَافَقُوا وَكَانَ مَثَلهمْ كَمَثَلِ رَجُل كَانَ فِي ظُلْمَة فَأَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله مِنْ قَذًى أَوْ أَذًى فَأَبْصَرَهُ حَتَّى عَرِفَ مَا يَتَّقِي مِنْهُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ طُفِئَتْ نَاره فَأَقْبَلَ لَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي مِنْ أَذًى فَذَلِكَ الْمُنَافِق كَانَ فِي ظُلْمَة الشِّرْك فَأَسْلَمَ فَعَرَفَ الْحَلَال وَالْحَرَام وَالْخَيْر وَالشَّرّ . فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ كَفَرَ فَصَارَ لَا يَعْرِف الْحَلَال مِنْ الْحَرَام وَلَا الْخَيْر مِنْ الشَّرّ . وَقَالَ الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي هَذِهِ الْآيَة قَالَ أَمَّا النُّور فَهُوَ إِيمَانهمْ الَّذِي كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ وَأَمَّا الظُّلْمَة فَهِيَ ضَلَالَتهمْ وَكُفْرهمْ الَّذِي كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ وَهُمْ قَوْم كَانُوا عَلَى هُدًى ثُمَّ نَزَعَ مِنْهُمْ فَعَتَوْا بَعْد ذَلِكَ . وَقَالَ مُجَاهِد : " فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله" أَمَّا إِضَاءَة النَّار فَإِقْبَالهمْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْهُدَى. وَقَالَ عَطَاء الْخُرَسَانِيّ فِي قَوْله تَعَالَى " مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اِسْتَوْقَدَ نَارًا " قَالَ هَذَا مَثَل الْمُنَافِق يُبْصِر أَحْيَانًا وَيَعْرِف أَحْيَانًا ثُمَّ يُدْرِكهُ عَمَى الْقَلْب . وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَة وَالْحَسَن وَالسُّدِّيّ وَالرَّبِيع بْن أَنَس نَحْو قَوْل عَطَاء الْخُرَسَانِيّ وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَمَ فِي قَوْله تَعَالَى " مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اِسْتَوْقَدَ نَارًا " قَالَ هَذَا مَثَل الْمُنَافِق يُبْصِر أَحْيَانًا وَيَعْرِف أَحْيَانًا ثُمَّ يُدْرِكهُ عَمَى الْقَلْب . وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَمَ فِي قَوْله تَعَالَى " مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اِسْتَوْقَدَ نَارًا " إِلَى آخِر الْآيَة . قَالَ هَذِهِ صِفَة الْمُنَافِقِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا حَتَّى أَضَاءَ الْإِيمَان فِي قُلُوبهمْ كَمَا أَضَاءَتْ النَّار لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اِسْتَوْقَدُوا نَارًا ثُمَّ كَفَرُوا فَذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ فَانْتَزَعَهُ كَمَا ذَهَبَ بِضَوْءِ هَذِهِ النَّار فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ وَأَمَّا قَوْل اِبْن جَرِير فَيُشْبِه مَا رَوَاهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى " مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اِسْتَوْقَدَ نَارًا " قَالَ هَذَا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه لِلْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِالْإِسْلَامِ فَيُنَاكِحهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَيُوَارِثُونَهُمْ وَيُقَاسِمُونَهُمْ الْفَيْء فَلَمَّا مَاتُوا سَلَبَهُمْ اللَّه ذَلِكَ الْعِزّ كَمَا سَلَبَ صَاحِب النَّار ضَوْءَهُ وَقَالَ أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس عَنْ أَبِي الْعَالِيَة" مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اِسْتَوْقَدَ نَارًا " فَإِنَّمَا ضَوْء النَّار مَا أَوْقَدَتْهَا فَإِذَا خَمَدَتْ ذَهَبَ نُورهَا وَكَذَلِكَ الْمُنَافِق كُلَّمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاص بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه أَضَاءَ لَهُ فَإِذَا شَكَّ وَقَعَ فِي الظُّلْمَة وَقَالَ الضَّحَّاك " ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ " أَمَّا نُورهمْ فَهُوَ إِيمَانهمْ الَّذِي تَكَلَّمُوا بِهِ وَقَالَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ قَتَادَة " مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اِسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله " فَهِيَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه أَضَاءَتْ لَهُمْ فَأَكَلُوا بِهَا وَشَرِبُوا وَأَمِنُوا فِي الدُّنْيَا وَأَنْكَحُوا النِّسَاء وَحَقَنُوا دِمَاءَهُمْ حَتَّى إِذَا مَاتُوا ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ وَقَالَ سَعِيد عَنْ قَتَادَة فِي هَذِهِ الْآيَة إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُنَافِق تَكَلَّمَ بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَأَضَاءَتْ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَنَاكَحَ بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَغَازَاهُمْ بِهَا وَوَارَثَهُمْ بِهَا وَحَقَنَ بِهَا دَمه وَمَاله فَلَمَّا كَانَ عِنْد الْمَوْت سُلِبَهَا الْمُنَافِق لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْل فِي قَلْبه وَلَا حَقِيقَة فِي عَمَله " وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ " قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس " وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ " يَقُول فِي عَذَاب إِذَا مَاتُوا وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد عَنْ عِكْرِمَة أَوْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس " وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات " أَيْ يُبْصِرُونَ الْحَقّ وَيَقُولُونَ بِهِ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ ظُلْمَة الْكُفْر أَطْفَئُوهُ بِكُفْرِهِمْ وَنِفَاقهمْ فِيهِ فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات الْكُفْر فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى وَلَا يَسْتَقِيمُونَ عَلَى حَقّ وَقَالَ السُّدِّيّ فِي تَفْسِيره بِسَنَدِهِ " وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات " فَكَانَتْ الظُّلْمَة نِفَاقهمْ وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ فَذَلِكَ حِين يَمُوت الْمُنَافِق فَيُظْلِم عَلَيْهِ عَمَله عَمَل السُّوء فَلَا يَجِد لَهُ عَمَلًا مِنْ خَيْر عَمِلَ بِهِ يُصَدِّق بِهِ قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه " صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ " قَالَ السُّدِّيّ بِسَنَدِهِ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ خُرْسٌ عُمْي وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس " صُمٌّ بُكْمٌ عُمْي " يَقُول لَا يَسْمَعُونَ الْهُدَى وَلَا يَعْقِلُونَهُ وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَقَتَادَة بْن دِعَامَة فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ قَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى هُدًى وَكَذَا قَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : قَالَ السُّدِّيّ بِسَنَدِهِ " صُمٌّ بُكْمٌ عُمْي فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ " إِلَى الْإِسْلَام . وَقَالَ قَتَادَة فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَيْ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ۚ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 )
هَذَا مَثَلٌ آخَر ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِضَرْبٍ آخَر مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ قَوْم يَظْهَر لَهُمْ الْحَقّ تَارَة وَيَشُكُّونَ تَارَة أُخْرَى فَقُلُوبهمْ فِي حَال شَكّهمْ وَكُفْرهمْ وَتَرَدُّدهمْ " كَصَيِّبٍ " وَالصَّيِّب الْمَطَر قَالَهُ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَنَاس مِنْ الصَّحَابَة وَأَبُو الْعَالِيَة وَمُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعَطَاء وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَعَطِيَّة الْعَوْفِيّ وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَالسُّدِّيّ وَالرَّبِيع بْن أَنَس . وَقَالَ الضَّحَّاك : هُوَ السَّحَاب وَالْأَشْهَر هُوَ الْمَطَر نَزَلَ مِنْ السَّمَاء فِي حَال ظُلُمَات وَهِيَ الشُّكُوك وَالْكُفْر وَالنِّفَاق وَرَعْد وَهُوَ مَا يُزْعِج الْقُلُوب مِنْ الْخَوْف فَإِنَّ مِنْ شَأْن الْمُنَافِقِينَ الْخَوْف الشَّدِيد وَالْفَزَع كَمَا قَالَ تَعَالَى " يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَة عَلَيْهِمْ " وَقَالَ " وَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأ أَوْ مَغَارَات أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ " " وَالْبَرْق " هُوَ مَا يَلْمَع فِي قُلُوب هَؤُلَاءِ الضَّرْب مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي بَعْض الْأَحْيَان مِنْ نُور الْإِيمَان وَلِهَذَا قَالَ " يَجْعَلُونَ أَصَابِعهمْ فِي آذَانهمْ مِنْ الصَّوَاعِق حَذَرَ الْمَوْت وَاَللَّه مُحِيط بِالْكَافِرِينَ" أَيْ وَلَا يُجْدَى عَنْهُمْ حَذَرُهُمْ شَيْئًا لِأَنَّ اللَّه مُحِيط بِقُدْرَتِهِ وَهُمْ تَحْت مَشِيئَته وَإِرَادَته كَمَا قَالَ " هَلْ أَتَاك حَدِيث الْجُنُود فِرْعَوْن وَثَمُود بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيب وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ " بِهِمْ .
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ۖ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 )
ثُمَّ قَالَ " يَكَاد الْبَرْق يَخْطَف أَبْصَارهمْ " أَيْ لِشِدَّتِهِ وَقُوَّته فِي نَفْسه وَضَعْف بَصَائِرهمْ وَعَدَم ثَبَاتهَا لِلْإِيمَانِ وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس " يَكَاد الْبَرْق يَخْطَف أَبْصَارهمْ " يَقُول يَكَاد مُحْكَم الْقُرْآن يَدُلّ عَلَى عَوْرَات الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد عَنْ عِكْرِمَة أَوْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس " يَكَاد الْبَرْق يَخْطَف أَبْصَارهمْ " أَيْ لِشِدَّةِ ضَوْء الْحَقّ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا أَيْ كُلَّمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَان شَيْء اِسْتَأْنَسُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ وَتَارَة تَعْرِض لَهُمْ الشُّكُوك أَظْلَمَتْ قُلُوبهمْ فَوَقَفُوا حَائِرِينَ وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ يَقُول كُلَّمَا أَصَابَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ عِزّ الْإِسْلَام اِطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ وَإِذَا أَصَابَ الْإِسْلَام نَكْبَة قَامُوا لِيَرْجِعُوا إِلَى الْكُفْر كَقَوْلِهِ تَعَالَى " وَمِنْ النَّاس مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ " وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد عَنْ عِكْرِمَة أَوْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس " كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا " أَيْ يَعْرِفُونَ الْحَقّ وَيَتَكَلَّمُونَ بِهِ فَهُمْ مِنْ قَوْلهمْ بِهِ عَلَى اِسْتِقَامَة فَإِذَا اِرْتَكَسُوا مِنْهُ إِلَى الْكُفْر قَامُوا أَيْ مُتَحَيِّرِينَ وَهَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَالسُّدِّيّ بِسَنَدِهِ عَنْ الصَّحَابَة وَهُوَ أَصَحّ وَأَظْهَر وَاَللَّه أَعْلَم وَهَكَذَا يَكُونُونَ يَوْم الْقِيَامَة عِنْدَمَا يُعْطَى النَّاس النُّور بِحَسَبِ إِيمَانهمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى مِنْ النُّور مَا يُضِيء لَهُ مَسِيرَة فَرَاسِخ وَأَكْثَر مِنْ ذَلِكَ وَأَقَلّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْفَأ نُوره تَارَة وَيُضِيء أُخْرَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى الصِّرَاط تَارَة وَيَقِف أُخْرَى وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْفَأ نُوره بِالْكُلِّيَّةِ وَهُمْ الْخُلَّص مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ " يَوْم يَقُول الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونَا نَقْتَبِس مِنْ نُوركُمْ قِيلَ اِرْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا " وَقَالَ فِي حَقّ الْمُؤْمِنِينَ " يَوْم تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات يَسْعَى نُورهمْ بَيْن أَيْدِيهمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْم جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار " الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى " يَوْم لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورهمْ يَسْعَى بَيْن أَيْدِيهمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّك عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير " " ذِكْرُ الْحَدِيث الْوَارِد فِي ذَلِكَ " قَالَ سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى " يَوْم تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات" الْآيَة ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول " مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يُضِيء نُوره مِنْ الْمَدِينَة إِلَى عَدَن أَبْيَن بِصَنْعَاء وَدُون ذَلِكَ حَتَّى إِنَّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُضِيء نُوره إِلَّا مَوْضِع قَدَمَيْهِ" رَوَاهُ اِبْن جَرِير وَرَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ حَدِيث عِمْرَان بْن دَاوُد الْقَطَّان عَنْ قَتَادَة بِنَحْوِهِ وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمِنْهَال بْن عَمْرو عَنْ قَيْس بْن السَّكَن عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ يُؤْتَوْنَ نُورهمْ عَلَى قَدْر أَعْمَالهمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْتَى نُوره كَالنَّخْلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْتَى نُوره كَالرَّجُلِ الْقَائِم وَأَدْنَاهُمْ نُورًا عَلَى إِبْهَامه يُطْفَأ مَرَّة وَيَتَّقِد مَرَّة وَهَكَذَا رَوَاهُ اِبْن جَرِير عَنْ اِبْن مُثَنَّى عَنْ اِبْن إِدْرِيس عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْمِنْهَال وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن مُحَمَّد الطَّنَافِسِيّ حَدَّثَنَا اِبْن إِدْرِيس سَمِعْت أَبِي يَذْكُر عَنْ الْمِنْهَال بْن عَمْرو عَنْ قَيْس بْن السَّكَن عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود " نُورهمْ يَسْعَى بَيْن أَيْدِيهمْ " قَالَ عَلَى قَدْر أَعْمَالهمْ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاط مِنْهُمْ مَنْ نُوره مِثْل الْجَبَل وَمِنْهُمْ مَنْ نُوره مِثْل النَّخْلَة وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُوره فِي إِبْهَامه يَتَّقِد مَرَّة وَيُطْفَأ أُخْرَى وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم أَيْضًا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الْأَحْمَسِيّ حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحَمَّانِيّ حَدَّثَنَا عُقْبَة بْن الْيَقْظَان عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ لَيْسَ أَحَد مِنْ أَهْل التَّوْحِيد إِلَّا يُعْطَى نُورًا يَوْم الْقِيَامَة فَأَمَّا الْمُنَافِق فَيُطْفَأ نُوره فَالْمُؤْمِن مُشْفِق مِمَّا يَرَى مِنْ إِطْفَاء نُور الْمُنَافِقِينَ فَهُمْ يَقُولُونَ رَبّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورنَا وَقَالَ الضَّحَّاك بْن مُزَاحِم يُعْطَى كُلّ مِنْ كَانَ يُظْهِر الْإِيمَان فِي الدُّنْيَا يَوْم الْقِيَامَة نُورًا فَإِذَا اِنْتَهَى إِلَى الصِّرَاط طُفِئَ نُور الْمُنَافِقِينَ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ شَفِقُوا فَقَالُوا رَبّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورنَا . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا صَارَ النَّاس أَقْسَامًا مُؤْمِنُونَ خُلَّص وَهُمْ الْمَوْصُوفُونَ بِالْآيَاتِ الْأَرْبَع فِي أَوَّل الْبَقَرَة وَكُفَّار خُلَّص وَهُمْ الْمَوْصُوفُونَ بِالْآيَتَيْنِ بَعْدهَا وَمُنَافِقُونَ وَهُمْ قِسْمَانِ خُلَّص وَهُمْ الْمَضْرُوب لَهُمْ الْمَثَل النَّارِيّ وَمُنَافِقُونَ يَتَرَدَّدُونَ تَارَة يَظْهَر لَهُمْ لَمْع الْإِيمَان وَتَارَة يَخْبُو وَهُمْ أَصْحَاب الْمَثَل الْمَائِيّ وَهُمْ أَخَفّ حَالًا مِنْ الَّذِينَ قَبْلهمْ . وَهَذَا الْمَقَام يُشْبِه مِنْ بَعْض الْوُجُوه مَا ذُكِرَ فِي سُورَة النُّور مِنْ ضَرْب مَثَل الْمُؤْمِن وَمَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قَلْبه مِنْ الْهُدَى وَالنُّور بِالْمِصْبَاحِ فِي الزُّجَاجَة الَّتِي كَأَنَّهَا كَوْكَب دُرِّيّ وَهِيَ قَلْب الْمُؤْمِن الْمَفْطُور عَلَى الْإِيمَان وَاسْتِمْدَاده مِنْ الشَّرِيعَة الْخَالِصَة الصَّافِيَة الْوَاصِلَة إِلَيْهِ مِنْ غَيْر كَدَر وَلَا تَخْلِيط كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيره فِي مَوْضِعه إِنْ شَاءَ اللَّه ثُمَّ ضَرَبَ مَثَل الْعِبَاد مِنْ الْكُفَّار الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْء وَلَيْسُوا عَلَى شَيْء وَهُمْ أَصْحَاب الْجَهْل الْمُرَكَّب فِي قَوْله تَعَالَى" وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالهمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدهُ شَيْئًا " الْآيَة ثُمَّ ضَرَبَ مَثَل الْكُفَّار الْجُهَّال الْجَهْل الْبَسِيط وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ " أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْر لُجِّيّ يَغْشَاهُ مَوْج مِنْ فَوْقه مَوْج مِنْ فَوْقه سَحَاب ظُلُمَات بَعْضهَا فَوْق بَعْض إِذَا أَخْرَجَ يَده لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَل اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور " فَقَسَّمَ الْكُفَّار هَاهُنَا إِلَى قِسْمَيْنِ دَاعِيَة وَمُقَلِّد كَمَا ذَكَرهمَا فِي أَوَّل سُورَة الْحَجّ " وَمِنْ النَّاس مَنْ يُجَادِل فِي اللَّه بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّبِع كُلّ شَيْطَان مَرِيد " وَقَالَ " وَمِنْ النَّاس مَنْ يُجَادِل فِي اللَّه بِغَيْرِ عِلْم وَلَا هُدًى وَلَا كِتَاب مُنِير " وَقَدْ قَسَّمَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّل الْوَاقِعَة وَفِي آخِرهَا وَفِي سُورَة الْإِنْسَان إِلَى قِسْمَيْنِ سَابِقُونَ وَهُمْ الْمُقَرَّبُونَ وَأَصْحَاب يَمِين وَهُمْ الْأَبْرَار . فَتَلَخَّصَ مِنْ مَجْمُوع هَذِهِ الْآيَات الْكَرِيمَات أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَانِ مُقَرَّبُونَ وَأَبْرَار وَأَنَّ الْكَافِرِينَ صِنْفَانِ دُعَاة وَمُقَلِّدُونَ وَأَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَيْضًا صِنْفَانِ مُنَافِق خَالِص وَمُنَافِق فِيهِ شُعْبَة مِنْ نِفَاق كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ النَّبِيّ صَلِّي اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ وَاحِدَة مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَة مِنْ النِّفَاق حَتَّى يَدَعهَا : مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ " اِسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَان قَدْ تَكُون فِيهِ شُعْبَة مِنْ إِيمَان وَشُعْبَة مِنْ نِفَاق إِمَّا عَمَلِيّ لِهَذَا الْحَدِيث أَوْ اِعْتِقَادِيّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَة كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ طَائِفَة مِنْ السَّلَف وَبَعْض الْعُلَمَاء كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة يَعْنِي شَيْبَان عَنْ لَيْث عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " الْقُلُوب أَرْبَعَة : قَلْب أَجْرَد فِيهِ مِثْل السِّرَاج يُزْهِر وَقَلْب أَغْلَف مَرْبُوط عَلَى غِلَافه وَقَلْب مَنْكُوس وَقَلْب مُصْفَح . فَأَمَّا الْقَلْب الْأَجْرَد فَقَلْب الْمُؤْمِن فَسِرَاجه فِيهِ نُوره وَأَمَّا الْقَلْب الْأَغْلَف فَقَلْب الْكَافِر وَأَمَّا الْقَلْب الْمَنْكُوس فَقَلْب الْمُنَافِق الْخَالِص عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ وَأَمَّا الْقَلْب الْمُصْفَح فَقَلْب فِيهِ إِيمَان وَنِفَاق وَمَثَل الْإِيمَان فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَة يَمُدّهَا الْمَاء الطَّيِّب وَمَثَل النِّفَاق فِيهِ كَمَثَلِ الْقُرْحَة يَمُدّهَا الْقَيْح وَالدَّم فَأَيّ الْمَادَّتَيْنِ غَلَبَتْ عَلَى الْأُخْرَى غَلَبَتْ عَلَيْهِ " وَهَذَا إِسْنَاد جَيِّد حَسَن . وَقَوْله تَعَالَى " وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارهمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير " قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد عَنْ عِكْرِمَة أَوْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى " وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارهمْ " قَالَ : لِمَا تَرَكُوا مِنْ الْحَقّ بَعْد مَعْرِفَته " إِنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير" قَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلّ مَا أَرَادَ بِعِبَادِهِ مِنْ نِقْمَة أَوْ عَفْو قَدِير . وَقَالَ اِبْن جَرِير : إِنَّمَا وَصَفَ اللَّه تَعَالَى نَفْسه بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلّ شَيْء فِي هَذَا الْمَوْضِع لِأَنَّهُ حَذَّرَ الْمُنَافِقِينَ بَأْسه وَسَطَوْته وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ بِهِمْ مُحِيط وَعَلَى إِذْهَاب أَسْمَاعهمْ وَأَبْصَارهمْ قَدِير. وَمَعْنَى قَدِير قَادِر كَمَا مَعْنَى عَلِيم عَالِم وَذَهَبَ اِبْن جَرِير وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ مَضْرُوبَانِ لِصِنْفٍ وَاحِد مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَتَكُون أَوْ فِي قَوْله تَعَالَى " أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاء" بِمَعْنَى الْوَاو كَقَوْلِهِ تَعَالَى " وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا " أَوْ تَكُون لِلتَّخْبِيرِ أَيْ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا بِهَذَا وَإِنْ شِئْت بِهَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيّ : أَوْ لِلتَّسَاوِي مِثْل جَالِس الْحَسَن أَوْ اِبْن سِيرِينَ عَلَى مَا وَجَّهَهُ الزَّمَخْشَرِيّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُسَاوٍ لِلْآخَرِ فِي إِبَاحَة الْجُلُوس إِلَيْهِ وَيَكُون مَعْنَاهُ عَلَى قَوْله سَوَاء ضَرَبَتْ لَهُمْ مَثَلًا بِهَذَا أَوْ بِهَذَا فَهُوَ مُطَابِق لِحَالِهِمْ " قُلْت " وَهَذَا يَكُون بِاعْتِبَارِ جِنْس الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ أَصْنَاف وَلَهُمْ أَحْوَال وَصِفَات كَمَا ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي سُورَة بَرَاءَة - وَمِنْهُمْ - وَمِنْهُمْ - وَمِنْهُمْ - يَذْكُر أَحْوَالهمْ وَصِفَاتهمْ وَمَا يَعْتَمِدُونَهُ مِنْ الْأَفْعَال وَالْأَقْوَال فَجَعَلَ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ لِصِنْفَيْنِ مِنْهُمْ أَشَدّ مُطَابَقَة لِأَحْوَالِهِمْ وَصِفَاتهمْ وَاَللَّه أَعْلَم كَمَا ضَرَبَ الْمَثَلَيْنِ فِي سُورَة النُّور لِصِنْفَيْ الْكُفَّار الدُّعَاة وَالْمُقَلِّدِينَ فِي قَوْله تَعَالَى " وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالهمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ " إِلَى أَنْ قَالَ " أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْر لُجِّيّ " الْآيَة فَالْأَوَّل لِلدُّعَاةِ الَّذِينَ هُمْ فِي جَهْل مُرَكَّب وَالثَّانِي لِذَوِي الْجَهْل الْبَسِيط مِنْ الْأَتْبَاع الْمُقَلِّدِينَ وَاَللَّه أَعْلَم بِالصَّوَابِ .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 21 )
شَرَعَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي بَيَان وَحْدَانِيَّة أُلُوهِيَّته بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْعِم عَلَى عَبِيده بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ الْعَدَم إِلَى الْوُجُود وَإِسْبَاغه عَلَيْهِمْ النِّعَم الظَّاهِرَة وَالْبَاطِنَة .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )
وَإِسْبَاغه عَلَيْهِمْ النِّعَم الظَّاهِرَة وَالْبَاطِنَة بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ الْأَرْض فِرَاشًا أَيْ مَهْدًا كَالْفِرَاشِ مُقَرَّرَة مُوَطَّأَة مُثَبَّتَة بِالرَّوَاسِي الشَّامِخَات وَالسَّمَاء بِنَاء وَهُوَ السَّقْف كَمَا قَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى " وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتهَا مُعْرِضُونَ " " وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاء مَاء " وَالْمُرَاد بِهِ السَّحَاب هَاهُنَا فِي وَقْته عِنْد اِحْتِيَاجهمْ إِلَيْهِ فَأَخْرَجَ لَهُمْ بِهِ مِنْ أَنْوَاع الزُّرُوع وَالثِّمَار مَا هُوَ مُشَاهَد رِزْقًا لَهُمْ وَلِأَنْعَامِهِمْ كَمَا قَرَّرَ هَذَا فِي غَيْر مَوْضِع مِنْ الْقُرْآن وَمِنْ أَشْبَه آيَة بِهَذِهِ الْآيَة قَوْله تَعَالَى " الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْض قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَركُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَات ذَلِكُمْ اللَّه رَبّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّه رَبّ الْعَالَمِينَ " وَمَضْمُونه أَنَّهُ الْخَالِق الرَّازِق مَالِك الدَّار وَسَاكِنِيهَا وَرَازِقهمْ فَبِهَذَا يَسْتَحِقّ أَنْ يُعْبَد وَحْده وَلَا يُشْرَك بِهِ غَيْره وَلِهَذَا قَالَ " فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه أَيّ الذَّنْب أَعْظَم عِنْد اللَّه ؟ قَالَ " أَنْ تَجْعَل لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك " الْحَدِيث وَكَذَا حَدِيث مُعَاذ " أَتَدْرِي مَا حَقّ اللَّه عَلَى عِبَاده ؟ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " الْحَدِيث وَفِي الْحَدِيث الْآخَر " لَا يَقُول أَحَدكُمْ مَا شَاءَ اللَّه وَشَاءَ فُلَان وَلَكِنْ لِيَقُلْ مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ شَاءَ فُلَان " وَقَالَ حَمَّاد بْن سَلَمَة حَدَّثَنَا عَبْد الْمَلِك بْن عُمَيْر عَنْ رِبْعِيّ بْن خِرَاش عَنْ الطُّفَيْل بْن سَخْبَرَة أَخِي عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ لِأُمِّهَا قَالَ : رَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِم كَأَنِّي أَتَيْت عَلَى نَفَر مِنْ الْيَهُود فَقُلْت مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : نَحْنُ الْيَهُود . قُلْت : إِنَّكُمْ لَأَنْتُمْ الْقَوْم لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عُزَيْر اِبْن اللَّه. قَالُوا : وَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمْ الْقَوْم لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّه وَشَاءَ مُحَمَّد قَالَ : ثُمَّ مَرَرْت بِنَفَرٍ مِنْ النَّصَارَى فَقُلْت : مَنْ أَنْتُمْ قَالُوا : نَحْنُ النَّصَارَى . قُلْت : إِنَّكُمْ لَأَنْتُمْ الْقَوْم لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ الْمَسِيح اِبْن اللَّه قَالُوا : وَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمْ الْقَوْم لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّه وَشَاءَ مُحَمَّد . فَلَمَّا أَصْبَحْت أَخْبَرْت بِهَا مَنْ أَخْبَرْت ثُمَّ أَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته فَقَالَ " هَلْ أَخْبَرْت بِهَا أَحَدًا ؟ " قُلْت : نَعَمْ . فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ " أَمَّا بَعْد فَإِنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَا أَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ وَإِنَّكُمْ قُلْتُمْ كَلِمَة كَانَ يَمْنَعنِي كَذَا وَكَذَا أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا فَلَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّه وَشَاءَ مُحَمَّد وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّه وَحْده " هَكَذَا رَوَاهُ اِبْن مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة مِنْ حَدِيث حَمَّاد بْن سَلَمَة بِهِ وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن عُمَيْر بِهِ بِنَحْوِهِ وَقَالَ سُفْيَان بْن سَعِيد الثَّوْرِيّ عَنْ الْأَجْلَح بْن عَبْد اللَّه الْكِنْدِيّ عَنْ يَزِيد بْن الْأَصَمّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَجُل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّه وَمَا شِئْت فَقَالَ " أَجَعَلْتنِي لِلَّهِ نِدًّا ؟ قُلْ مَا شَاءَ اللَّه وَحْده" . رَوَاهُ اِبْن مَرْدَوَيْهِ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث عِيسَى بْن يُونُس عَنْ الْأَجْلَح بِهِ وَهَذَا كُلّه صِيَانَة وَحِمَايَة لِجَنَابِ التَّوْحِيد وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد عَنْ عِكْرِمَة أَوْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ اللَّه تَعَالَى يَا أَيّهَا النَّاس اُعْبُدُوا رَبّكُمْ لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ أَيْ وَحِّدُوا رَبّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ وَبِهِ عَنْ اِبْن عَبَّاس فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ غَيْره مِنْ الْأَنْدَاد الَّتِي لَا تَنْفَع وَلَا تَضُرّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا رَبّ لَكُمْ يَرْزُقكُمْ غَيْره وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّوْحِيد هُوَ الْحَقّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ . وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَة وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَمْرو بْن أَبِي عَاصِم حَدَّثَنَا أَبِي عَمْرو حَدَّثَنَا أَبِي الضَّحَّاك بْن مَخْلَد أَبُو عَاصِم حَدَّثَنَا شَبِيب بْن بِشْر حَدَّثَنَا عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَقَالَ الْأَنْدَاد هُوَ الشِّرْك أَخْفَى مِنْ دَبِيب النَّمْل عَلَى صَفَاة سَوْدَاء فِي ظُلْمَة اللَّيْل وَهُوَ أَنْ يَقُول وَاَللَّهِ وَحَيَاتِك يَا فُلَان وَحَيَاتِي وَيَقُول لَوْلَا كَلْبَة هَذَا لَأَتَانَا اللُّصُوص الْبَارِحَة وَلَوْلَا الْبَطّ فِي الدَّار لَأَتَى اللُّصُوص . وَقَوْل الرَّجُل لِصَاحِبِهِ مَا شَاءَ اللَّه وَشِئْت وَقَوْل الرَّجُل لَوْلَا اللَّه وَفُلَان لَا تَجْعَل فِيهِ فُلَان هَذَا كُلّه بِهِ شِرْك . وَفِي الْحَدِيث أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّه وَشِئْت قَالَ " أَجَعَلْتنِي لِلَّهِ نِدًّا " وَفِي الْحَدِيث الْآخَر " نِعْمَ الْقَوْم أَنْتُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّه وَشَاءَ فُلَان " . قَالَ أَبُو الْعَالِيَة : فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا أَيْ عُدَلَاء شُرَكَاء . وَهَكَذَا قَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَأَبُو مَالِك وَإِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد وَقَالَ مُجَاهِد فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ : تَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَه وَاحِد فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل . " ذِكْرُ حَدِيث فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة " قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا عَفَّان حَدَّثَنَا أَبُو خَلَف مُوسَى بْن خَلَف وَكَانَ يُعَدّ مِنْ الْبُدَلَاء حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير عَنْ زَيْد بْن سَلَّام عَنْ جَدّه مَمْطُور عَنْ الْحَارِث الْأَشْعَرِيّ أَنَّ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام بِخَمْسِ كَلِمَات أَنْ يَعْمَل بِهِنَّ وَأَنْ يَأْمُر بَنِي إِسْرَائِيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ وَأَنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئ بِهَا فَقَالَ لَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام : إِنَّك قَدْ أُمِرْت بِخَمْسِ كَلِمَات أَنْ تَعْمَل بِهِنَّ وَتَأْمُر بَنِي إِسْرَائِيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ فَإِمَّا أَنْ تُبَلِّغهُنَّ وَإِمَّا أَنْ أُبَلِّغهُنَّ فَقَالَ : يَا أَخِي إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتنِي أَنْ أُعَذَّب أَوْ يُخْسَف بِي . قَالَ : فَجَمَعَ يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا بَنِي إِسْرَائِيل فِي بَيْت الْمَقْدِس حَتَّى اِمْتَلَأَ الْمَسْجِد فَقُعِدَ عَلَى الشُّرَف فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّه أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَات أَنْ أَعْمَل بِهِنَّ وَآمُركُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعَبَّدُوا اللَّه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا فَإِنَّ مَثَل ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُل اِشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِص مَاله بِوَرِقٍ أَوْ ذَهَب فَجَعَلَ يَعْمَل وَيُؤَدِّي غَلَّته إِلَى غَيْر سَيِّده فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُون عَبْده كَذَلِكَ وَأَنَّ اللَّه خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّه يَنْصِب وَجْهه لِوَجْهِ عَبْده مَا لَمْ يَلْتَفِت فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَل ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُل مَعَهُ صُرَّة مِنْ مِسْك فِي عِصَابَة كُلّهمْ يَجِد رِيح الْمِسْك وَإِنَّ خُلُوف فَم الصَّائِم أَطْيَب عِنْد اللَّه مِنْ رِيح الْمِسْك وَأَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَل ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُل أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَشَدُّوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقه وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقه . وَقَالَ لَهُمْ : هَلْ لَكُمْ أَنْ أَفْتَدِي نَفْسِي مِنْكُمْ فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسه مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِير حَتَّى فَكَّ نَفْسه وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّه كَثِيرًا وَإِنَّ مَثَل ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُل طَلَبَهُ الْعَدُوّ سِرَاعًا فِي أَثَره فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ وَإِنَّ الْعَبْد أَحْصَنَ مَا يَكُون مِنْ الشَّيْطَان إِذَا كَانَ فِي ذِكْر اللَّه " قَالَ : وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَأَنَا آمُركُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ : الْجَمَاعَة وَالسَّمْع وَالطَّاعَة وَالْهِجْرَة وَالْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْجَمَاعَة قِيدَ شِبْر فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَة الْإِسْلَام مِنْ عُنُقه إِلَّا أَنْ يُرَاجِع وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى جَاهِلِيَّة فَهُوَ مِنْ جُثَاء جَهَنَّم" قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى . فَقَالَ " وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِم فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ عَلَى مَا سَمَّاهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَاد اللَّه " هَذَا حَدِيث حَسَن وَالشَّاهِد مِنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَة قَوْله " وَإِنَّ اللَّه خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " وَهَذِهِ الْآيَة دَالَّة عَلَى تَوْحِيده تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وَحْده لَا شَرِيك لَهُ وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهِ كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ كَالرَّازِيِّ وَغَيْره عَلَى وُجُود الصَّانِع تَعَالَى وَهِيَ دَالَّة عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْمَوْجُودَات السُّفْلِيَّة وَالْعُلْوِيَّة وَاخْتِلَاف أَشْكَالهَا وَأَلْوَانهَا وَطِبَاعهَا وَمَنَافِعهَا وَوَضَعَهَا فِي مَوَاضِع النَّفْع بِهَا مُحْكَمَة عَلِمَ قُدْرَة خَالِقهَا وَحِكْمَته وَعِلْمه وَإِتْقَانه وَعَظِيم سُلْطَانه كَمَا قَالَ بَعْض الْأَعْرَاب وَقَدْ سُئِلَ مَا الدَّلِيل عَلَى وُجُود الرَّبّ تَعَالَى ؟ فَقَالَ : يَا سُبْحَان اللَّه إِنَّ الْبَعْر لَيَدُلّ عَلَى الْبَعِير وَإِنَّ أَثَر الْأَقْدَام لَتَدُلّ عَلَى الْمَسِير فَسَمَاء ذَات أَبْرَاج وَأَرْض ذَات فِجَاج . وَبِحَار ذَات أَمْوَاج ؟ أَلَا يَدُلّ ذَلِكَ عَلَى وُجُود اللَّطِيف الْخَبِير ؟ . وَحَكَى الرَّازِيّ عَنْ الْإِمَام مَالِك أَنَّ الرَّشِيد سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَاسْتَدَلَّ لَهُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَات وَالْأَصْوَات وَالنَّغَمَات وَعَنْ أَبِي حَنِيفَة أَنْ بَعْض الزَّنَادِقَة سَأَلُوهُ عَنْ وُجُود الْبَارِي تَعَالَى فَقَالَ لَهُمْ : دَعُونِي فَإِنِّي مُفَكِّر فِي أَمْر قَدْ أُخْبِرْت عَنْهُ ذَكَرُوا لِي أَنَّ سَفِينَة فِي الْبَحْر مُوَقَّرَة فِيهَا أَنْوَاع مِنْ الْمَتَاجِر وَلَيْسَ بِهَا أَحَد يَحْرُسُهَا وَلَا يَسُوقُهَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَسِيرُ بِنَفْسِهَا وَتَخْتَرِقُ الْأَمْوَاج الْعِظَام حَتَّى تَتَخَلَّص مِنْهَا وَتَسِير حَيْثُ شَاءَتْ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَسُوقهَا أَحَدٌ . فَقَالُوا هَذَا شَيْء لَا يَقُولهُ عَاقِلٌ . فَقَالَ : وَيْحكُمْ هَذِهِ الْمَوْجُودَات بِمَا فِيهَا مِنْ الْعَالَم الْعُلْوِيّ وَالسُّفْلِيّ وَمَا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَشْيَاء الْمُحْكَمَة لَيْسَ لَهَا صَانِع . فَبُهِتَ الْقَوْم وَرَجَعُوا إِلَى الْحَقّ وَأَسْلَمُوا عَلَى يَدَيْهِ وَعَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ وُجُود الصَّانِع فَقَالَ : هَذَا وَرَق التُّوت طَعْمه وَاحِد تَأْكُلهُ الدُّود فَيَخْرُج مِنْهُ الْإِبْرَيْسَم وَتَأْكُلهُ النَّحْل فَيَخْرُج مِنْهُ الْعَسَل وَتَأْكُلهُ الشَّاة وَالْبَقَر وَالْأَنْعَام فَتُلْقِيه بَعْرًا وَرَوْثًا وَتَأْكُلهُ الظِّبَاء فَيَخْرُج مِنْهَا الْمِسْك وَهُوَ شَيْء وَاحِد وَعَنْ الْإِمَام أَحْمَد بْن حَنْبَل أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : هَاهُنَا حِصْن حَصِين أَمْلَس لَيْسَ لَهُ بَاب وَلَا مَنْفَذ ظَاهِره كَالْفِضَّةِ الْبَيْضَاء وَبَاطِنه كَالذَّهَبِ الْإِبْرِيز فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ اِنْصَدَعَ جِدَاره فَخَرَجَ مِنْهُ حَيَوَان سَمِيع بَصِير ذُو شَكْل حَسَن وَصَوْت مَلِيح يَعْنِي بِذَلِكَ الْبَيْضَة إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الدَّجَاجَة وَسُئِلَ أَبُو نُوَاس عَنْ ذَلِكَ فَأَنْشَدَ : تَأَمَّلْ فِي نَبَات الْأَرْض وَانْظُرْ إِلَى آثَار مَا صَنَعَ الْمَلِيك عُيُون مِنْ لُجَيْن شَاخِصَات بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهَب السَّبِيك عَلَى قُضُب الزَّبَرْجَد شَاهِدَات بِأَنَّ اللَّه لَيْسَ لَهُ شَرِيك وَقَالَ اِبْن الْمُعْتَزّ : فَيَا عَجَبًا كَيْف يُعْصَى الْإِلَهُ أَمْ كَيْف يَجْحَدهُ الْجَاحِد وَفِي كُلّ شَيْء لَهُ آيَة تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِد وَقَالَ آخَرُونَ مَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ السَّمَاوَات فِي اِرْتِفَاعهَا وَاتِّسَاعهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْكَوَاكِب الْكِبَار وَالصِّغَار النَّيِّرَة مِنْ السَّيَّارَة وَمِنْ الثَّوَابِت وَشَاهَدَهَا كَيْف تَدُور مَعَ الْفُلْك الْعَظِيم فِي كُلّ يَوْم وَلَيْلَة دُوَيْرَة وَلَهَا فِي أَنْفُسهَا سَيْر يَخُصّهَا وَنَظَرَ إِلَى الْبِحَار الْمُكْتَنِفَة لِلْأَرْضِ مِنْ كُلّ جَانِب وَالْجِبَال الْمَوْضُوعَة فِي الْأَرْض لِتَقَرّ وَيَسْكُن سَاكِنُوهَا مَعَ اِخْتِلَاف أَشْكَالهَا وَأَلْوَانهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَمِنْ الْجِبَال جُدُدٌ بِيضٌ وَحُمْرُ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنْ النَّاس وَالدَّوَابّ وَالْأَنْعَام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَنْهَار السَّارِحَة مِنْ قُطْر إِلَى قُطْر لِلْمَنَافِعِ وَمَا ذَرَأَ فِي الْأَرْض مِنْ الْحَيَوَانَات الْمُتَنَوِّعَة وَالنَّبَات الْمُخْتَلِف الطُّعُوم وَالْأرَايِيج وَالْأَشْكَال وَالْأَلْوَان مَعَ اِتِّحَاد طَبِيعَة التُّرْبَة وَالْمَاء اِسْتَدَلَّ عَلَى وُجُود الصَّانِع وَقُدْرَته الْعَظِيمَة وَحِكْمَته وَرَحْمَته بِخَلْقِهِ وَلُطْفه بِهِمْ وَإِحْسَانه إِلَيْهِمْ وَبِرّه بِهِمْ لَا إِلَه غَيْره وَلَا رَبّ سِوَاهُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ أُنِيب وَالْآيَات فِي الْقُرْآن الدَّالَّة عَلَى هَذَا الْمَقَام كَثِيرَة جِدًّا .
وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 23 )
ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى فِي تَقْرِير النُّبُوَّة بَعْد أَنْ قَرَّرَ أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَقَالَ مُخَاطِبًا لِلْكَافِرِينَ " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدنَا " يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْل مَا جَاءَ بِهِ إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه فَعَارِضُوهُ بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ وَاسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِمَنْ شِئْتُمْ مِنْ دُون اللَّه فَإِنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ قَالَ اِبْن عَبَّاس شُهَدَاءَكُمْ أَعْوَانكُمْ وَقَالَ السُّدِّيّ عَنْ أَبِي مَالِك شُرَكَاءَكُمْ أَيْ قَوْمًا آخَرِينَ يُسَاعِدُونَكُمْ عَلَى ذَلِكَ أَيْ اِسْتَعِينُوا بِآلِهَتِكُمْ فِي ذَلِكَ يَمُدُّونَكُمْ وَيَنْصُرُونَكُمْ وَقَالَ مُجَاهِد وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ قَالَ نَاس يَشْهَدُونَ بِهِ يَعْنِي حُكَّام الْفُصَحَاء وَقَدْ تَحَدَّاهُمْ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا فِي غَيْر مَوْضِع مِنْ الْقُرْآن فَقَالَ فِي سُورَة الْقَصَص " قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْد اللَّه هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " وَقَالَ فِي سُورَة سُبْحَان " قُلْ لَئِنْ اِجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا " وَقَالَ فِي سُورَة هُود " أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِثْله مُفْتَرَيَات وَادْعُوا مَنْ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُون اللَّه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" وَقَالَ فِي سُورَة يُونُس " وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُون اللَّه وَلَكِنْ تَصْدِيق الَّذِي بَيْن يَدَيْهِ وَتَفْصِيل الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ مِنْ رَبّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله وَادْعُوا مَنْ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُون اللَّه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " وَكُلّ هَذِهِ الْآيَات مَكِّيَّة ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِذَلِكَ أَيْضًا فِي الْمَدِينَة فَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَة " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْب " أَيْ شَكّ " مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدنَا " يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله " يَعْنِي مِنْ مِثْل الْقُرْآن قَالَهُ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَاخْتَارَهُ اِبْن جَرِير وَالطَّبَرِيّ وَالزَّمَخْشَرِيّ وَالرَّازِيّ وَنَقَلَهُ عَنْ عُمَر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَأَكْثَر الْمُحَقِّقِينَ وَرَجَّحَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ مِنْ أَحْسَنهَا أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ كُلّهمْ مُتَفَرِّقِينَ وَمُجْتَمِعِينَ سَوَاء فِي ذَلِكَ أُمِّيّهمْ وَكِتَابِيّهمْ وَذَلِكَ أَكْمَل فِي التَّحَدِّي وَأَشْمَل مِنْ أَنْ يَتَحَدَّى آحَادهمْ الْأُمِّيِّينَ مِمَّنْ لَا يَكْتُب وَلَا يُعَانِي شَيْئًا مِنْ الْعُلُوم وَبِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى " فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِثْله " وَقَوْله لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ . وَقَالَ بَعْضهمْ مِنْ مِثْل مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي مِنْ رَجُل أُمِّيّ مِثْله . وَالصَّحِيح الْأَوَّل لِأَنَّ التَّحَدِّي عَامّ لَهُمْ كُلّهمْ مَعَ أَنَّهُمْ أَفْصَح الْأُمَم وَقَدْ تَحَدَّاهُمْ بِهَذَا فِي مَكَّة وَالْمَدِينَة مَرَّات عَدِيدَة مَعَ شِدَّة عَدَاوَتهمْ لَهُ وَبُغْضهمْ لِدِينِهِ وَمَعَ هَذَا أُعْجِزُوا عَنْ ذَلِكَ .
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 )
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا " لَنْ لِنَفْيِ التَّأْبِيد فِي الْمُسْتَقْبَل أَيْ وَلَنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ أَبَدًا وَهَذِهِ أَيْضًا مُعْجِزَة أُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ خَبَرًا جَازِمًا قَاطِعًا مُقْدِمًا غَيْر خَائِف وَلَا مُشْفِق أَنَّ هَذَا الْقُرْآن لَا يُعَارَض بِمِثْلِهِ أَبَد الْآبِدِينَ وَدَهْر الدَّاهِرِينَ وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْأَمْر لَمْ يُعَارَض مِنْ لَدُنْه إِلَى زَمَاننَا هَذَا وَلَا يُمْكِن وَأَنَّى يَتَأَتَّى ذَلِكَ لِأَحَدٍ وَالْقُرْآن كَلَام اللَّه خَالِق كُلّ شَيْء وَكَيْف يُشْبِه كَلَام الْخَالِق كَلَام الْمَخْلُوقِينَ وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآن وَجَدَ فِيهِ مِنْ وُجُوه الْإِعْجَاز فُنُونًا ظَاهِرَة وَخَفِيَّة مِنْ حَيْثُ اللَّفْظ وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى قَالَ اللَّه تَعَالَى " الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُن حَكِيم خَبِير " فَأُحْكِمَتْ أَلْفَاظُهُ وَفُصِّلَتْ مَعَانِيه أَوْ بِالْعَكْسِ عَلَى الْخِلَاف فَكُلّ مِنْ لَفْظه وَمَعْنَاهُ فَصِيح لَا يُحَادَى وَلَا يُدَانَى فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ مُغَيَّبَات مَاضِيَة كَانَتْ وَوَقَعَتْ طِبْق مَا أَخْبَرَ سَوَاء بِسَوَاءٍ وَأَمَرَ بِكُلِّ خَيْر وَنَهَى عَنْ كُلّ شَرّ كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّك صِدْقًا وَعَدْلًا " أَيْ صِدْقًا فِي الْإِخْبَار وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَام فَكُلّه حَقّ وَصِدْق وَعَدْل وَهُدًى لَيْسَ فِيهِ مُجَازَفَة وَلَا كَذِب وَلَا اِفْتِرَاء كَمَا يُوجَد فِي أَشْعَار الْعَرَب وَغَيْرهمْ مِنْ الْأَكَاذِيب وَالْمُجَازَفَات الَّتِي لَا يَحْسُنُ شِعْرُهُمْ إِلَّا بِهَا كَمَا قِيلَ فِي الشِّعْر إِنَّ أَعْذَبه أَكْذَبه . وَتَجِد الْقَصِيدَة الطَّوِيلَة الْمَدِيدَة قَدْ اُسْتُعْمِلَ غَالِبهَا فِي وَصْف النِّسَاء أَوْ الْخَيْل أَوْ الْخَمْر أَوْ فِي مَدْح شَخْص مُعَيَّن أَوْ فَرَس أَوْ نَاقَة أَوْ حَرْب أَوْ كَائِنَة أَوْ مَخَافَة أَوْ سَبُع أَوْ شَيْء مِنْ الْمُشَاهَدَات الْمُتَعَيِّنَة الَّتِي لَا تُفِيد شَيْئًا إِلَّا قُدْرَة الْمُتَكَلِّم الْمُعَيَّن عَلَى الشَّيْء الْخَفِيّ أَوْ الدَّقِيق أَوْ إِبْرَازه إِلَى الشَّيْء الْوَاضِح ثُمَّ تَجِد لَهُ فِيهِ بَيْتًا أَوْ بَيْتَيْنِ أَوْ أَكْثَر هِيَ بُيُوت الْقَصِيد وَسَائِرهَا هَذْر لَا طَائِل تَحْته وَأَمَّا الْقُرْآن فَجَمِيعُهُ فَصِيحٌ فِي غَايَة نِهَايَات الْبَلَاغَة عِنْد مَنْ يَعْرِف ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا مِمَّنْ فَهِمَ كَلَام الْعَرَب وَتَصَارِيف التَّعْبِير فَإِنَّهُ إِنْ تَأَمَّلْت أَخْبَاره وَجَدْتهَا فِي غَايَة الْحَلَاوَة سَوَاء كَانَتْ مَبْسُوطَة أَوْ وَجِيزَة وَسَوَاء تَكَرَّرَتْ أَمْ لَا وَكُلَّمَا تَكَرَّرَتْ حَلَا وَعَلَا لَا يَخْلَق عَنْ كَثْرَة الرَّدّ وَلَا يَمَلّ مِنْهُ الْعُلَمَاء وَإِنْ أَخَذَ فِي الْوَعِيد وَالتَّهْدِيد جَاءَ مِنْهُ مَا تَقْشَعِرّ مِنْهُ الْجِبَال الصُّمّ الرَّاسِيَات فَمَا ظَنّك بِالْقُلُوبِ الْفَاهِمَات وَإِنْ وَعَدَ أَتَى بِمَا يَفْتَح الْقُلُوب وَالْآذَان وَمُشَوِّق إِلَى دَار السَّلَام وَمُجَاوَرَة عَرْش الرَّحْمَن كَمَا قَالَ فِي التَّرْغِيب " فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " وَقَالَ " فِيهَا مَا تَشْتَهِيه الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" وَقَالَ فِي التَّرْهِيب " أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِف بِكُمْ جَانِب الْبَرّ " وَ " أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء أَنْ يَخْسِف بِكُمْ الْأَرْض فَإِذَا هِيَ تَمُور أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء أَنْ يُرْسِل عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْف نَذِير " وَقَالَ فِي الزَّجْر : " فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ " وَقَالَ فِي الْوَعْظ" أَفَرَأَيْت إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ " إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاع الْفَصَاحَة وَالْبَلَاغَة وَالْحَلَاوَة وَإِنْ جَاءَتْ الْآيَات فِي الْأَحْكَام وَالْأَوَامِر وَالنَّوَاهِي اِشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَمْر بِكُلِّ مَعْرُوف حَسَن نَافِع طَيِّب مَحْبُوب وَالنَّهْي عَنْ كُلّ قَبِيح رَذِيل دَنِيء كَمَا قَالَ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره مِنْ السَّلَف إِذَا سَمِعْت اللَّه تَعَالَى يَقُول فِي الْقُرْآن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَمَّنُوا فَأَرْعِهَا سَمْعك فَإِنَّهَا خَيْر يَأْمُر بِهِ أَوْ شَرّ يَنْهَى عَنْهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " يَأْمُرهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَر وَيُحِلّ لَهُمْ الطَّيِّبَات وَيُحَرِّم عَلَيْهِمْ الْخَبَائِث وَيَضَع عَنْهُمْ إِصْرهمْ وَالْأَغْلَال الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ " الْآيَة وَإِنْ جَاءَتْ الْآيَات فِي وَصْف الْمَعَاد وَمَا فِيهِ مِنْ الْأَهْوَال وَفِي وَصْف الْجَنَّة وَالنَّار وَمَا أَعَدَّ اللَّه فِيهِمَا لِأَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ مِنْ النَّعِيم وَالْجَحِيم وَالْمَلَاذ وَالْعَذَاب الْأَلِيم بَشَّرَتْ بِهِ وَحَذَّرَتْ وَأَنْذَرَتْ وَدَعَتْ إِلَى فِعْل الْخَيْر وَاجْتِنَاب الْمُنْكَرَات وَزَهَّدَتْ فِي الدُّنْيَا وَرَغَّبَتْ فِي الْأُخْرَى وَثَبَتَتْ عَلَى الطَّرِيقَة الْمُثْلَى وَهَدَتْ إِلَى صِرَاط اللَّه الْمُسْتَقِيم وَشَرْعه الْقَوِيم وَنَفَتْ عَنْ الْقُلُوب رِجْس الشَّيْطَان الرَّجِيم. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاء إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنْ الْآيَات مَا آمَنَ عَلَى مِثْله الْبَشَر وَإِنَّمَا الَّذِي كَانَ أُوتِيته وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّه إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُون أَكْثَرهمْ تَابِعًا يَوْم الْقِيَامَة " لَفْظ مُسْلِم - وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيته وَحْيًا " أَيْ الَّذِي اِخْتَصَصْت بِهِ مِنْ بَيْنهمْ هَذَا الْقُرْآن الْمُعْجِز لِلْبَشَرِ أَنْ يُعَارِضُوهُ بِخِلَافِ غَيْره مِنْ الْكُتُب الْإِلَهِيَّة فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُعْجِزَة عِنْد كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء وَاَللَّه أَعْلَم وَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مِنْ الْآيَات الدَّالَّة عَلَى نُبُوَّته وَصِدْقه فِيمَا جَاءَ بِهِ مَا لَا يَدْخُل تَحْت حَصْر وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ . وَقَدْ قَرَّرَ بَعْض الْمُتَكَلِّمِينَ الْإِعْجَاز بِطَرِيقٍ يَشْمَل قَوْل أَهْل السُّنَّة وَقَوْل الْمُعْتَزِلَة فِي الصَّرْفَة . فَقَالَ إِنْ كَانَ هَذَا الْقُرْآن مُعْجِزًا فِي نَفْسه لَا يَسْتَطِيع الْبَشَر الْإِتْيَان بِمِثْلِهِ وَلَا فِي قُوَاهُمْ مُعَارَضَته فَقَدْ حَصَلَ الْمُدَّعَى وَهُوَ الْمَطْلُوب وَإِنْ كَانَ فِي إِمْكَانهمْ مُعَارَضَته بِمِثْلِهِ وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ مَعَ شِدَّة عَدَاوَتهمْ لَهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه لِصَرْفِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ مُعَارَضَته مَعَ قُدْرَتهمْ عَلَى ذَلِكَ وَهَذِهِ الطَّرِيقَة وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَرْضِيَّة لِأَنَّ الْقُرْآن فِي نَفْسه مُعْجِز لَا يَسْتَطِيع الْبَشَر مُعَارَضَته كَمَا قَرَّرْنَا إِلَّا أَنَّهَا تَصْلُح عَلَى سَبِيل التَّنَزُّل وَالْمُجَادَلَة وَالْمُنَافَحَة عَنْ الْحَقّ وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَة أَجَابَ الرَّازِيّ فِي تَفْسِيره عَنْ سُؤَاله فِي السُّوَر الْقِصَار كَالْعَصْرِ وَإِنَّا أَعْطَيْنَاك الْكَوْثَر . وَقَوْله تَعَالَى " فَاتَّقُوا النَّار الَّتِي وَقُودهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " أَمَّا الْوَقُود بِفَتْحِ الْوَاو فَهُوَ مَا يُلْقَى فِي النَّار لِإِضْرَامِهَا كَالْحَطَبِ وَنَحْوه كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّم حَطَبًا " وَقَالَ تَعَالَى " إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه حَصَب جَهَنَّم أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَة مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ" وَالْمُرَاد بِالْحِجَارَةِ هِيَ هَاهُنَا حِجَارَة الْكِبْرِيت الْعَظِيمَة السَّوْدَاء الصُّلْبَة الْمُنْتِنَة وَهِيَ أَشَدّ الْأَحْجَار حَرًّا إِذَا حُمِيَتْ أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا . وَقَالَ عَبْد الْمَلِك بْن مَيْسَرَة الزَّرَّاد عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن سَابِط عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فِي قَوْله تَعَالَى " وَقُودهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ " قَالَ هِيَ حِجَارَة مِنْ كِبْرِيت خَلَقَهَا اللَّهُ يَوْم خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي السَّمَاء الدُّنْيَا يَعُدُّهَا لِلْكَافِرِينَ . رَوَاهُ اِبْن جَرِير وَهَذَا لَفْظه وَابْن أَبِي حَاتِم وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْرَكه وَقَال عَلَى شَرْط الشَّيْخَيْنِ . وَقَالَ السُّدِّيّ فِي تَفْسِيره عَنْ أَبِي مَالِك وَعَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَنْ مُرَّة عَنْ اِبْن مَسْعُود وَعَنْ نَاس مِنْ الصَّحَابَة اِتَّقُوا النَّار الَّتِي وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة أَمَّا الْحِجَارَة فَهِيَ حِجَارَة فِي النَّار مِنْ كِبْرِيت أَسْوَد يُعَذَّبُونَ بِهِ مَعَ النَّار . وَقَالَ مُجَاهِد حِجَارَة مِنْ كِبْرِيت أَنْتَن مِنْ الْجِيفَة وَقَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَلِيّ حِجَارَة مِنْ كِبْرِيت . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج حِجَارَة مِنْ كِبْرِيت أَسْوَد فِي النَّار . وَقَالَ لِي عَمْرو بْن دِينَار أَصْلَب مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَة وَأَعْظَم . وَقِيلَ الْمُرَاد بِهَا حِجَارَة الْأَصْنَام وَالْأَنْدَاد الَّتِي كَانَتْ تُعْبَد مِنْ دُون اللَّه كَمَا قَالَ تَعَالَى " إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه حَصَب جَهَنَّم " الْآيَة حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ وَالرَّازِيّ وَرَجَّحَهُ عَلَى الْأَوَّل : قَالَ لِأَنَّ أَخْذ النَّار فِي حِجَارَة الْكِبْرِيت لَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ فَجَعْلهَا هَذِهِ الْحِجَارَة أَوْلَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَذَلِكَ أَنَّ النَّار إِذَا أُضْرِمَتْ بِحِجَارَةِ الْكِبْرِيت كَانَ ذَلِكَ أَشَدّ لِحَرِّهَا وَأَقْوَى لِسَعِيرِهَا وَلَا سِيَّمَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّلَف مِنْ إِنَّهَا حِجَارَة مِنْ كِبْرِيت مُعَدَّة لِذَلِكَ ثُمَّ إِنَّ أَخْذ النَّار بِهَذِهِ الْحِجَارَة أَيْضًا مُشَاهَد وَهَذَا الْجِصُّ يَكُون أَحْجَارًا فَيُعْمَل فِيهِ بِالنَّارِ حَتَّى يَصِير كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَحْجَار تَفْخَرهَا النَّار وَتُحْرِقهَا وَإِنَّمَا سِيقَ هَذَا فِي حَرّ هَذِهِ النَّار الَّتِي وُعِدُوا بِهَا وَشِدَّة ضِرَامهَا وَقُوَّة لَهَبهَا قَالَ تَعَالَى " كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا " وَهَكَذَا رَجَّحَ الْقُرْطُبِيّ أَنَّ الْمُرَاد بِهَا الْحِجَارَة الَّتِي تُسَعَّر بِهَا النَّار لِتَحْمَرّ وَيَشْتَدّ لَهَبهَا قَالَ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدّ عَذَابًا لِأَهْلِهَا . قَالَ : وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " كُلُّ مُؤْذٍ فِي النَّار " وَهَذَا الْحَدِيث لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ وَلَا مَعْرُوف . ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيّ وَقَدْ فُسِّرَ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدهمَا أَنَّ كُلّ مَنْ آذَى النَّاس دَخَلَ النَّار وَالْآخَر أَنَّ كُلّ مَا يُؤْذِي فِي النَّار يَتَأَذَّى بِهِ أَهْلُهَا مِنْ السِّبَاع وَالْهَوَامّ وَغَيْر ذَلِكَ . وَقَوْله تَعَالَى " أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ" الْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِير فِي أُعِدَّتْ عَائِد إِلَى النَّار الَّتِي وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة وَيَحْتَمِل عَوْده عَلَى الْحِجَارَة كَمَا قَالَ اِبْن مَسْعُود وَلَا مُنَافَاة بَيْن الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ وَأُعِدَّتْ أَيْ أُرْصِدَتْ وَحَصَلَتْ لِلْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُوله كَمَا قَالَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ مُحَمَّد عَنْ عِكْرِمَة أَوْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ أَيْ لِمَنْ كَانَ عَلَى مِثْل مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْر وَقَدْ اِسْتَدَلَّ كَثِير مِنْ أَئِمَّة السُّنَّة بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ النَّار مَوْجُودَة الْآن لِقَوْلِهِ تَعَالَى" أُعِدَّتْ " أَيْ أُرْصِدَتْ وَهُيِّئَتْ وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيث كَثِيرَة فِي ذَلِكَ مِنْهَا " تَحَاجَّتْ الْجَنَّة وَالنَّار " وَمِنْهَا" اِسْتَأْذَنَتْ النَّارُ رَبّهَا فَقَالَتْ رَبّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَس فِي الشِّتَاء وَنَفَس فِي الصَّيْف" وَحَدِيث اِبْن مَسْعُود سَمِعْنَا وَجْبَة فَقُلْنَا مَا هَذِهِ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَذَا حَجَر أُلْقِيَ بِهِ مِنْ شَفِير جَهَنَّم مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَة الْآن وَصَلَ إِلَى قَعْرهَا " وَهُوَ عِنْد مُسْلِم وَحَدِيث صَلَاة الْكُسُوف وَلَيْلَة الْإِسْرَاء وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيث الْمُتَوَاتِرَة فِي هَذَا الْمَعْنَى وَقَدْ خَالَفَتْ الْمُعْتَزِلَة بِجَهْلِهِمْ فِي هَذَا وَوَافَقَهُمْ الْقَاضِي مُنْذِر بْن سَعِيد البَّلُّوطِيّ قَاضِي الْأَنْدَلُس. " تَنْبِيهٌ يَنْبَغِي الْوُقُوف عَلَيْهِ " قَوْله تَعَالَى " فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله " وَقَوْله فِي سُورَة يُونُس " بِسُورَةِ مِثْله" يَعُمّ كُلّ سُورَة فِي الْقُرْآن طَوِيلَة كَانَتْ أَوْ قَصِيرَة لِأَنَّهَا نَكِرَة فِي سِيَاق الشَّرْط فَتَعُمّ كَمَا هِيَ فِي سِيَاق النَّفْي عِنْد الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ كَمَا هُوَ مُقَرَّر فِي مَوْضِعه . فَالْإِعْجَاز حَاصِل فِي طِوَال السُّوَر وَقِصَارهَا وَهَذَا لَا أَعْلَم فِيهِ نِزَاعًا بَيْن النَّاس سَلَفًا وَخَلَفًا. وَقَدْ قَالَ الرَّازِيّ فِي تَفْسِيره : فَإِنْ قِيلَ قَوْله تَعَالَى" فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله " يَتَنَاوَل سُورَة الْكَوْثَر وَسُورَة الْعَصْر وَقُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ وَنَحْنُ نَعْلَم بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْإِتْيَان بِمِثْلِهِ أَوْ بِمَا يَقْرُب مِنْهُ مُمْكِن فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ الْإِتْيَان بِمِثْلِ هَذِهِ السُّوَر خَارِج عَنْ مِقْدَار الْبَشَر كَانَ مُكَابَرَة وَالْإِقْدَام عَلَى هَذِهِ الْمُكَابَرَات مِمَّا يُطْرِق بِالتُّهْمَةِ إِلَى الدِّين " قُلْنَا " فَلِهَذَا السَّبَب اِخْتَرْنَا الطَّرِيق الثَّانِي وَقُلْنَا إِنْ بَلَغَتْ هَذِهِ السُّورَة فِي الْفَصَاحَة حَدّ الْإِعْجَاز فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُود وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ اِمْتِنَاعهمْ مِنْ الْمُعَارَضَة مَعَ شِدَّة دَوَاعِيهمْ إِلَى تَوْهِين أَمْره مُعْجِزًا فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَحْصُل الْمُعْجِز هَذَا لَفْظه بِحُرُوفِهِ وَالصَّوَاب أَنَّ كُلّ سُورَة مِنْ الْقُرْآن مُعْجِزَة لَا يَسْتَطِيع الْبَشَر مُعَارَضَتهَا طَوِيلَة كَانَتْ أَوْ قَصِيرَة قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه لَوْ تَدَبَّرَ النَّاس هَذِهِ السُّورَة لَكَفَتْهُمْ " وَالْعَصْر إِنَّ الْإِنْسَان لَفِي خُسْر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَمْرو بْن الْعَاص أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى مُسَيْلِمَة الْكَذَّاب قَبْل أَنْ يُسْلِم فَقَالَ لَهُ مُسَيْلِمَة : مَاذَا أُنْزِلَ عَلَى صَاحِبكُمْ بِمَكَّة فِي هَذَا الْحِين فَقَالَ لَهُ عَمْرو لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ سُورَة وَجِيزَة بَلِيغَة فَقَالَ وَمَا هِيَ فَقَالَ" وَالْعَصْر إِنَّ الْإِنْسَان لَفِي خُسْر " فَفَكَّرَ سَاعَة ثُمَّ رَفَعَ رَأْسه فَقَالَ : وَلَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ مِثْلهَا فَقَالَ : وَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ : يَا وَبْر يَا وَبْر إِنَّمَا أَنْتَ أُذُنَانِ وَصَدْر وَسَائِرك حَقْر فَقْر ثُمَّ قَالَ كَيْف تَرَى يَا عَمْرو فَقَالَ لَهُ عَمْرو وَاَللَّه إِنَّك لَتَعْلَم أَنِّي لَأَعْلَم أَنَّك تَكْذِب .

Tidak ada komentar:

歓迎 | Bienvenue | 환영 | Welcome | أهلا وسهلا | добро пожаловать | Bonvenon | 歡迎

{} Thanks For Visiting {}
{} شكرا للزيارة {}
{} Trims Tamu Budiman {}


MyBukuKuning Global Group


KLIK GAMBAR!
Super-Bee
Pop up my Cbox
Optimize for higher ranking FREE – DIY Meta Tags! Brought to you by ineedhits!
Website Traffic